العقيدة الإسلامية وخصائصها
إن هذه العقيدة – بادئ ذي بدء – هي العقيدة التي ارتضاها الله لنا وأنعم بها علينا : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) [ المائدة : 3 ] .
وهي من ثَمَّ منهج الحياة الصحيح الذي رسمه الله لنا لنفوز بخير الدنيا والآخرة ، ولنكون محققين لشروط الخلافة التي خلقنا الله من أجلها : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) [ البقرة : 30 ] .
ولنقوم بعمارة الأرض على الوجه الذي أراده الله : ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [ هود : 61 ] .
في حدود العبادة لله التي هي غاية الوجود الإنساني كله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
وهذه الصورة المجملة تعطينا لمحة عن خصائص هذه العقيدة ، وهي الشمول والتكامل ، والتوازن . ولنتحدث عن كلٍّ من هذه الخصائص بإيجاز :
أولاً : الشمول :
إن هذه العقيدة تشمل الإنسان كله ، جسمه وعقله وروحه ، كما تشمل سلوكه وفكره ومشاعره ، كما تشمل دنياه وآخرته .
ليس في كيان الإنسان ولا في حياته شيء لا يتصل بهذه العقيدة ولا تتصل العقيدة به .
إنها تصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته ، وفي كل عمل يعمله ، أو فكر يفكره ، أو شعور يختلج في ضميره .
ويتضح لنا الشمول فـي مجالات متعددة ، وعلى محاور مختلفة ، تلتقي كلها في النهاية :
1- ففي مجال الاعتقاد تشمل الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين والكتب السماوية والقدر خيره وشره .
2- وفي مجال العمل تشمل العمل للدنيا والعمل للآخرة في ذات الوقت .
3- وفي مجال الكائن البشري تشمل حركة جسمه وتفكّر عقله وانطلاقة روحه .
4- وفي مجال المجموع البشري تشمل الفرد والجماعة والأمة والدولة فـي ذات الوقت .
5- وفي مجال العلاقات تشمل علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بغيره ( في داخل الأسرة وفي داخل المجتمع وفيما بين المسلمين وغير المسلمين ، وفيما بين الإنسان والكون كذلك ! ) .
ولن توجد دائرة أوسع من هذه ولا أشمل . لأن هذه تشمل كل شيء في الوجود !
ثانياً : التكامل ( أو الترابط ) :
إن هذه العقيدة لا تتّسم بالشمول الذي ذكرنا مجالاته ومحاوره المختلفة فحسب ، بل بالتكامل والترابط كذلك . وهذه مستقلة عن الشمول ، وإن كانت وثيقة الصلة به .
ولنأخذ هذه المجالات واحداً واحداً لنرى أثر الترابط فيه بالإضافة إلى الشمول .
1- في مجال الاعتقاد :
قلنا إنها تشمل الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والقدر خيره وشره . ولكن الشمول في ذاته لا يعني ترابط هذه المعتقدات بعضها ببعض . فقد تكون موجودة بعضها إلى جوار بعض ، دون ترابط بين أركانها المختلفة ، كل منها يعمل في حقل مستقل غير مرتبط بالآخر . وليس هذا هو الحال في هذه العقيدة . فإن كل ركن من هذه الأركان ذو صلة وثيقة بسائرها ، بحيث تكون في النهاية كلاً متكاملاً ، يؤثر بمجموعه المترابط في حياة الإنسان .
وإن شئت الدقة فقل إن سائر أركان العقيدة الإسلامية مرتبط بركنها الأول وهو الأكبر وهو الإيمان بالله .
فالإيمان بالله هو الأساس ، وهو لب العقيدة وصلبها ، ثم تأتي بقية الأركان فتتصل به فتتكامل .
فالإيمان باليوم الآخر – كما رأينا في حديثنا عنه – مرتبط بعدل الله وحكمته وبالحق الذي خلق الله به السماوات والأرض ، وخلق به الحياة والموت ، أي أنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بتصورنا لصفات الله جل وعلا ، بحيث يصبح تصورنا لها ناقصاً ومختلاً إذا لم نؤمن بذلك اليوم الذي يحق فيه الحق وتكتمل الصورة ويصل كل شيء فيه إلى دلالته الحقيقية الكاملة .
والإيمان بالملائكة متصل بقدرة الله من جانب : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ فاطر : 1 ] .
ومتصل بمعرفة المنهج الذي يريد الله أن تسير حياتنا عليه من جانب آخر ، لأنهم هم الرسل الذين يرسلهم الله ليبلغوا وحيه لمن يختارهم من البشر لهداية البشرية .
وبذلك لا يكون الإيمان بالملائكة ركناً منفصلاً في هذه العقيدة قائماً بذاته وإنما هو متصل بالإيمان بالله ،ومترابط مع بقية الأركان .
ونستطيع على هذا الضوء أن ندرك ترابط بقية الأركان بعضها ببعض ، وترابط سائرها بالإيمان بالله . فالإيمان بالكتب متصل مباشرة بالمنهج الرباني أي بما يشرعه الله للبشر لتستقيم حياتهم في الحياة الدنيا والآخرة ،وكذلك الإيمان بالنبيين ، لأنهم هم الذين يحملون إلينا المنهج الرباني بما يوحي الله إليهم عن طريق ملائكته .
أما الإيمان بالقدر فهو متصل بإيماننا بوحدانية الله مباشرة ، لأنه هو الإجابة المباشرة على هذا السؤال : هل هناك في الكون من يشترك مع الله في تدبير شؤونه وإجراء أحداثه ، أم أنه هو الله وحده ؟
وبذلك يتضح لنا الترابط جلياً بين هذه الأركان كلها في مجال الاعتقاد .
2- وفي مجال العمل :
قلنا : إن العقيدة تشمل العمل للدنيا والعمل للآخرة في ذات الوقت ، وهنا نقول : إن من خصائص هذه العقيدة أنها لا تفصل بين العمل للدنيا والعمل للآخرة .
فليس هناك في الإسلام عمل هو للدنيا وحدها ، وعمل هو للآخرة وحدها ! إنما الأعمال كلها للدنيا والآخرة في وقت واحد .
العبادات التي يُظَنّ أنها للآخرة وحدها ، كلها ذات مقتضى متصل بالحياة الدنيا : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [ العنكبوت : 45 ] ،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ البقرة : 183 ] .
أي هنا في الحياة الدنيا ،وهكذا فـي سائر العبادات هي للآخرة وفي ذات الوقت لها غاية تتحقق هنا في الأرض .
والأعمال التي يظن أنها للدنيا وحدها من جانب آخر كالطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس وعمارة الأرض .. إلخ كلها تعمل في الدنيا ولكن يشترط فيها شروط تربطها بالآخرة ، يشترط فيها التزام الحلال والحرام والالتزام بأمر الله من أجل الثواب أو العقاب الذي يترتب على ذلك في الآخرة ، وكلها في نظر الإسلام " عبادة " متى ما روعي فيها الالتزام بأمر الله ، وتوجه بها الإنسان إلى الله . بل هي " العبادة " التي تشير إليها الآية : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
والآيتان الأخريان : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) [ الأنعام : 162 ، 163 ] .
وبذلك تتصل الدنيا والآخرة وتترابط في عقيدة الإسلام .
3- وفي مجال الكائن البشري :
قلنا : إنها تشمل حركة جسمه وتفكر عقله وانطلاقة روحه . ولكن هذه ليست مستقلة بعضها عن بعض . صحيح أن هناك ساعة تغلب فيها حركة الجسم كالطعام والشراب والجنس ، وساعة يغلب فيها تفكر العقل كساعات التأمل أو ساعات التفكير في شأن من شؤون العلم أو العمل ، وساعة تغلب فيها انطلاقة الروح كساعة التعبد .
ولكنّ الإسلام لا يدع واحدة من هذه تنفصل انفصالاً كاملاً بحيث تنقطع صلتها عن الباقيات .
في الطعام والشراب والجنس .. إلخ ، يتحرى الإنسان الحرام والحلال ويذكر اسم الله , فلا تعود حركة جسد مستقلة !
وفي التفكر كذلك يتوقى الإنسان التفكير الشرير ويتحرى التفكير الخير ، ويتقي الله ، فلا يعود تفكراً عقلياً خالصاً !
وفي العبادة الإسلامية يتحرك الجسد ويعمل العقل مع انطلاقة الروح ، وخذ الصلاة مثلاً ، إنها ليست انطلاقة روح مستقلة ، إنما يشارك فيها الجسم بالقيام والقعود والركوع والسجود ، ويشارك فيها الفكر بالتدبر في آيات الله ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لَيسَ لَكَ مِنْ صَلاتِكَ إلاّ ما وَعَيْتَ " .
وبذلك يترابط الكائن البشري كله في أداء متطلبات هذه العقيدة فلا ينفصل جسمه عن عقله أو عن روحه !
4- وفي مجال المجموع البشري :
قلنا : إنها تشمل الفرد والجماعة والأمة والدولة .. ونقول هنا : إن هذه العقيدة لا تأخذ أيّا من هذه بمعزل عن الأخرى . فهي لا تنشئ الفرد الصالح بمعايير ، والجماعة الصالحة بمعايير أخرى . إنما هي ذات المعايير وإن اختلفت التكاليف بين الفرد والجماعة .
المعايير هي الإيمان بالله وتقوى الله والالتزام بما أنزل الله . ثم تكون بعد ذلك تكاليف يقوم بها الفرد بمفرده وتكاليف أخرى تقوم بها الجماعة مجتمعة ، ولكن يلتقي الفرد والمجموع معاً على أسس واحدة وتربية ذات اتجاه موحد . ومن ثمَّ لا تفترق الأمة – حين تلتقي – إلى طوائف وشيع متنافرة كل منها يعمل في اتجاه ، ولا إلى فرد متخاصم مع المجموع . ولا تتحول كما يحدث في الجاهليتين المعاصرتين في الغرب والشرق إلى فرد طاغ ومجموع مفكك ، أو مجموع طاغ وفرد مسحوق !
وكذلك تلتقي الأمة والدولة على أمر واحد ، هو عبادة الله والحكم بما أنزل الله ، وهو أمر من صلب الاعتقاد ، لقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [ المائدة : 44 ] .
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مقتضى الإيمان بالله لقوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [ آل عمران : 110 ] .فيحدث الترابط بينهما والاتفاق .
5- وفي مجال العلاقات :
قلنا : إنها تشمل علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بالآخرين . وهنا نقول : إن هذه كلها تترابط وتلتقي عن طريق المحور المشترك فيها جميعاً وهو الإيمان بالله وعبادته . فعلاقة الإنسان بربه هي الإيمان والعبادة ، وعلاقته بنفسه هي تزكيتها ، والتزكية تتم عن طريق الإيمان والعبادة ، وعن طريق الالتزام بأوامر الله وهو مقتضى الإيمان والعبادة . وعلاقته ( أو علاقاته ) بغيره تتم كلها عن طريق تنفيذ أوامر الله والتحاكم إلى ما أنزل الله .
وبذلك تنتظم العلاقات كلها في سلك واحد قوامه الإيمان بالله ..
وهكذا يبدو الترابط والتكامل بين أركان هذه العقيدة على جميع المحاور وفي جميع المجالات .
ثالثاً : التوازن :
مع شمول هذه العقيدة وترابطها فهي تتسم أيضاً بالتوازن .
ويبدو هذا التوازن كذلك على مجموعة من المحاور المختلفة ومجموعة من المجالات :
1- توازن بين الروح والجسد أو عالم المعنويات وعالم الحس .
2- توازن بين عالم الغيب وعالم الشهادة .
3- توازن بين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب .
4- توازن بين جوانب الحياة المختلفة : السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. إلخ .
ولنقل كلمة سريعة عن كل مجال من هذه المجالات :
1- الإنسان قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله . وهناك توازن دقيق بين عنصريه المكونين له ، يختل إذا أعطينا أحدهما من العناية والالتفاف أكثر من حقه . والجاهليات دائماً تختل في هذا الأمر فتؤكد على جانب الروح وحدها كالهندوكية والبوذية أو جانب الجسد وحده كالجاهلية المعاصرة في شرق أوربا وغربها سواء .
ومن خصائص العقيدة الإسلامية أنها توازن بينهما التوازن الصحيح . فمن ناحية هي تمزج بين عالم الجسد وعالم الروح وتشركهما معاً في مجال العمل ومجال التعبد سواء ، ومن ناحية أخرى تعطي كلاً منهما حقه ،فلا تشغل الإنسان بعالم الحس وتكبت روحه كالمادية المعاصرة ، ولا تشغله بأمور روحه على حساب كيانه المادي ومطالب جسده كالديانة الهندوكية والبوذية : " ألا إني لأخشاكُمْ لله ولكنِّي أصُوْمُ وأفْطر ، وأقومُ وأنام وأتزوَّج النساء ، فمن رَغِبَ عن سُنَتي فليسَ مِنِّي ". وتقوم الحضارة الإسلامية المنبثقة من العقيدة على أساس الجانب المادي والروحي سواء .
2- يتطلب الإسلام الإيمان الغيب ، لأنه عن طريقه يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولكنه لا يطلب منه أن يهمل عالم الشهود ، بل إنه في عرضه لحقائق العقيدة يُكثر من الإشارة إلى آيات الله في الكون لكي يتدبرها الإنسان ويصل عن طريق تدبرها إلى الإيمان بالله ، ومن هنا لا يلجأ الإسلام إلى الغيبوبة الروحية التي يقع فيها بعض المتطرفين في العبادة زعماً منهم أنهم يستغنون بشهود الذات الإلهية عن شهود الكون الذي خلقه الله ، وكذلك لا يقبل أن ينشغل الإنسان بالكون المشهود عن عالم الغيب فيقطع صلته بالله واليوم الآخر كما تصنع حضارة اليوم المادية.
3- قلنا من قبل إن الإسلام لا يفصل بين الدنيا والآخرة ، ونقول هنا : إن هذا الربط ذاته هو الذي يوازن بين الدنيا والآخرة في هذه العقيدة ، إذ يحدث عدم التوازن حين تنفصل الدنيا عن الآخرة في حس الإنسان ، فيقوم بأعمال على أنها للدنيا وحدها منفصلة عن الآخرة ، وأعمال أخرى على أنها للآخرة وحدها منفصلة عن الدنيا ، عندئذ لا بد أن يحدث الاختلال في حسه فتغلب مجموعة من الأعمال على الأخرى . فإما أن تجذبه الدنيا رويداً رويداً حتى ينسى الآخرة ، وإما أن تجذبه الآخرة رويداً رويداً حتى ينسى الدنيا . وكلاهما في نظر الإسلام اختلال . فالأول ينشغل بالسعي وراء الرزق والحصول على أكبر قدر من متاع الدنيا ، والآخر يزهد في متاع الدنيا وينشغل عن طلب الرزق وتعمير الأرض . ويصبح كل منهما مقصراً وآثماً في حق الله .
إنما يحدث التوازن الذي تشير إليه الآية : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) [ القصص : 77 ] .
حين ترتبط الدنيا والآخرة في حس الإنسان فيعمل للآخرة وهو يعمل للدنيا في ذات الوقت . فلا يهمل العبادة ولا يهمل عمارة الأرض .
4- إن التوازن في حس المسلم بين الإيمان بالقدر وبين الأخذ بالأسباب ، هو من أجمل خصائص العقيدة الإسلامية ، إن المتواكلين يزعمون أنهم يتوكلون على الله ثم يهملون الأخذ بالأسباب جملة فيصيبهم ما يصيبهم من فقر ومرض وجهل وعجز وهوان في الأرض ، وإن المادية الأوربية من جانب آخر تأخذ بالأسباب منقطعة عن الله وقدره ، فتنتج إنتاجاً مادياً ضخماً وتكفر في ذات الوقت وتنحط أخلاقها وتهبط إنسانيتها إلى الحضيض ، ثم يصيبها ما يصيبها من قلق واضطراب وأمراض عصبية ونفسية وجنون وانتحار وضياع لأنها تفقد الطمأنينة التي يجدها المؤمن لذكر الله ولقدر الله .
والإسلام يوازن موازنة جميلة بين هذين الحدين المتطرفين ، فهو يعلم الناس أن هناك سننا ربانية يدير الله بها الكون المادي والحياة البشرية . وأنه لا بد من اتباع هذه السنن ومجاراتها إذا رغبنا في الوصول إلى نتائج معينة ، ومقتضى ذلك هو الأخذ بالأسباب . ولكنه في الوقت ذاته يربي المؤمن على ألا يتكل على الأسباب الظاهرة فيحبط عمله ، إنما يظل قلبه موصولا بالله ، متطلعا إليه أن ينجح مسعاه ويوصله إلى النتائج المرغوبة . وبذلك يتوازن الإنسان في سعيه في الأرض لا يهمل الأسباب ويتواكل ، ولا يكف عن التطلع إلى قدر الله .
5- أخيراً نقول : إن هذه العقيدة توازن بين جوانب الحياة الإنسانية المختلفة فلا يطغى منها جانب على جانب . فكما أن الجانب الروحي لا يطغى على الجانب المادي ، فكذلك لا يطغى الجانب السياسي على الاقتصادي ، ولا الاقتصادي على الخلقي وهكذا . بل تتوازن جوانب الحياة كلها على محور العقيدة الرئيس الذي مقتضاه الإيمان بالله والالتزام بما أنزل الله ، فتسير كلها متوازية متوازنة في آنٍ واحد.
.................................................. .......
إن هذه العقيدة – بادئ ذي بدء – هي العقيدة التي ارتضاها الله لنا وأنعم بها علينا : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ) [ المائدة : 3 ] .
وهي من ثَمَّ منهج الحياة الصحيح الذي رسمه الله لنا لنفوز بخير الدنيا والآخرة ، ولنكون محققين لشروط الخلافة التي خلقنا الله من أجلها : ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ) [ البقرة : 30 ] .
ولنقوم بعمارة الأرض على الوجه الذي أراده الله : ( هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [ هود : 61 ] .
في حدود العبادة لله التي هي غاية الوجود الإنساني كله : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
وهذه الصورة المجملة تعطينا لمحة عن خصائص هذه العقيدة ، وهي الشمول والتكامل ، والتوازن . ولنتحدث عن كلٍّ من هذه الخصائص بإيجاز :
أولاً : الشمول :
إن هذه العقيدة تشمل الإنسان كله ، جسمه وعقله وروحه ، كما تشمل سلوكه وفكره ومشاعره ، كما تشمل دنياه وآخرته .
ليس في كيان الإنسان ولا في حياته شيء لا يتصل بهذه العقيدة ولا تتصل العقيدة به .
إنها تصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته ، وفي كل عمل يعمله ، أو فكر يفكره ، أو شعور يختلج في ضميره .
ويتضح لنا الشمول فـي مجالات متعددة ، وعلى محاور مختلفة ، تلتقي كلها في النهاية :
1- ففي مجال الاعتقاد تشمل الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين والكتب السماوية والقدر خيره وشره .
2- وفي مجال العمل تشمل العمل للدنيا والعمل للآخرة في ذات الوقت .
3- وفي مجال الكائن البشري تشمل حركة جسمه وتفكّر عقله وانطلاقة روحه .
4- وفي مجال المجموع البشري تشمل الفرد والجماعة والأمة والدولة فـي ذات الوقت .
5- وفي مجال العلاقات تشمل علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بغيره ( في داخل الأسرة وفي داخل المجتمع وفيما بين المسلمين وغير المسلمين ، وفيما بين الإنسان والكون كذلك ! ) .
ولن توجد دائرة أوسع من هذه ولا أشمل . لأن هذه تشمل كل شيء في الوجود !
ثانياً : التكامل ( أو الترابط ) :
إن هذه العقيدة لا تتّسم بالشمول الذي ذكرنا مجالاته ومحاوره المختلفة فحسب ، بل بالتكامل والترابط كذلك . وهذه مستقلة عن الشمول ، وإن كانت وثيقة الصلة به .
ولنأخذ هذه المجالات واحداً واحداً لنرى أثر الترابط فيه بالإضافة إلى الشمول .
1- في مجال الاعتقاد :
قلنا إنها تشمل الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين والقدر خيره وشره . ولكن الشمول في ذاته لا يعني ترابط هذه المعتقدات بعضها ببعض . فقد تكون موجودة بعضها إلى جوار بعض ، دون ترابط بين أركانها المختلفة ، كل منها يعمل في حقل مستقل غير مرتبط بالآخر . وليس هذا هو الحال في هذه العقيدة . فإن كل ركن من هذه الأركان ذو صلة وثيقة بسائرها ، بحيث تكون في النهاية كلاً متكاملاً ، يؤثر بمجموعه المترابط في حياة الإنسان .
وإن شئت الدقة فقل إن سائر أركان العقيدة الإسلامية مرتبط بركنها الأول وهو الأكبر وهو الإيمان بالله .
فالإيمان بالله هو الأساس ، وهو لب العقيدة وصلبها ، ثم تأتي بقية الأركان فتتصل به فتتكامل .
فالإيمان باليوم الآخر – كما رأينا في حديثنا عنه – مرتبط بعدل الله وحكمته وبالحق الذي خلق الله به السماوات والأرض ، وخلق به الحياة والموت ، أي أنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بتصورنا لصفات الله جل وعلا ، بحيث يصبح تصورنا لها ناقصاً ومختلاً إذا لم نؤمن بذلك اليوم الذي يحق فيه الحق وتكتمل الصورة ويصل كل شيء فيه إلى دلالته الحقيقية الكاملة .
والإيمان بالملائكة متصل بقدرة الله من جانب : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [ فاطر : 1 ] .
ومتصل بمعرفة المنهج الذي يريد الله أن تسير حياتنا عليه من جانب آخر ، لأنهم هم الرسل الذين يرسلهم الله ليبلغوا وحيه لمن يختارهم من البشر لهداية البشرية .
وبذلك لا يكون الإيمان بالملائكة ركناً منفصلاً في هذه العقيدة قائماً بذاته وإنما هو متصل بالإيمان بالله ،ومترابط مع بقية الأركان .
ونستطيع على هذا الضوء أن ندرك ترابط بقية الأركان بعضها ببعض ، وترابط سائرها بالإيمان بالله . فالإيمان بالكتب متصل مباشرة بالمنهج الرباني أي بما يشرعه الله للبشر لتستقيم حياتهم في الحياة الدنيا والآخرة ،وكذلك الإيمان بالنبيين ، لأنهم هم الذين يحملون إلينا المنهج الرباني بما يوحي الله إليهم عن طريق ملائكته .
أما الإيمان بالقدر فهو متصل بإيماننا بوحدانية الله مباشرة ، لأنه هو الإجابة المباشرة على هذا السؤال : هل هناك في الكون من يشترك مع الله في تدبير شؤونه وإجراء أحداثه ، أم أنه هو الله وحده ؟
وبذلك يتضح لنا الترابط جلياً بين هذه الأركان كلها في مجال الاعتقاد .
2- وفي مجال العمل :
قلنا : إن العقيدة تشمل العمل للدنيا والعمل للآخرة في ذات الوقت ، وهنا نقول : إن من خصائص هذه العقيدة أنها لا تفصل بين العمل للدنيا والعمل للآخرة .
فليس هناك في الإسلام عمل هو للدنيا وحدها ، وعمل هو للآخرة وحدها ! إنما الأعمال كلها للدنيا والآخرة في وقت واحد .
العبادات التي يُظَنّ أنها للآخرة وحدها ، كلها ذات مقتضى متصل بالحياة الدنيا : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) [ العنكبوت : 45 ] ،( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) [ البقرة : 183 ] .
أي هنا في الحياة الدنيا ،وهكذا فـي سائر العبادات هي للآخرة وفي ذات الوقت لها غاية تتحقق هنا في الأرض .
والأعمال التي يظن أنها للدنيا وحدها من جانب آخر كالطعام والشراب والملبس والمسكن والجنس وعمارة الأرض .. إلخ كلها تعمل في الدنيا ولكن يشترط فيها شروط تربطها بالآخرة ، يشترط فيها التزام الحلال والحرام والالتزام بأمر الله من أجل الثواب أو العقاب الذي يترتب على ذلك في الآخرة ، وكلها في نظر الإسلام " عبادة " متى ما روعي فيها الالتزام بأمر الله ، وتوجه بها الإنسان إلى الله . بل هي " العبادة " التي تشير إليها الآية : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ) [ الذاريات : 56 ] .
والآيتان الأخريان : ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ) [ الأنعام : 162 ، 163 ] .
وبذلك تتصل الدنيا والآخرة وتترابط في عقيدة الإسلام .
3- وفي مجال الكائن البشري :
قلنا : إنها تشمل حركة جسمه وتفكر عقله وانطلاقة روحه . ولكن هذه ليست مستقلة بعضها عن بعض . صحيح أن هناك ساعة تغلب فيها حركة الجسم كالطعام والشراب والجنس ، وساعة يغلب فيها تفكر العقل كساعات التأمل أو ساعات التفكير في شأن من شؤون العلم أو العمل ، وساعة تغلب فيها انطلاقة الروح كساعة التعبد .
ولكنّ الإسلام لا يدع واحدة من هذه تنفصل انفصالاً كاملاً بحيث تنقطع صلتها عن الباقيات .
في الطعام والشراب والجنس .. إلخ ، يتحرى الإنسان الحرام والحلال ويذكر اسم الله , فلا تعود حركة جسد مستقلة !
وفي التفكر كذلك يتوقى الإنسان التفكير الشرير ويتحرى التفكير الخير ، ويتقي الله ، فلا يعود تفكراً عقلياً خالصاً !
وفي العبادة الإسلامية يتحرك الجسد ويعمل العقل مع انطلاقة الروح ، وخذ الصلاة مثلاً ، إنها ليست انطلاقة روح مستقلة ، إنما يشارك فيها الجسم بالقيام والقعود والركوع والسجود ، ويشارك فيها الفكر بالتدبر في آيات الله ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " لَيسَ لَكَ مِنْ صَلاتِكَ إلاّ ما وَعَيْتَ " .
وبذلك يترابط الكائن البشري كله في أداء متطلبات هذه العقيدة فلا ينفصل جسمه عن عقله أو عن روحه !
4- وفي مجال المجموع البشري :
قلنا : إنها تشمل الفرد والجماعة والأمة والدولة .. ونقول هنا : إن هذه العقيدة لا تأخذ أيّا من هذه بمعزل عن الأخرى . فهي لا تنشئ الفرد الصالح بمعايير ، والجماعة الصالحة بمعايير أخرى . إنما هي ذات المعايير وإن اختلفت التكاليف بين الفرد والجماعة .
المعايير هي الإيمان بالله وتقوى الله والالتزام بما أنزل الله . ثم تكون بعد ذلك تكاليف يقوم بها الفرد بمفرده وتكاليف أخرى تقوم بها الجماعة مجتمعة ، ولكن يلتقي الفرد والمجموع معاً على أسس واحدة وتربية ذات اتجاه موحد . ومن ثمَّ لا تفترق الأمة – حين تلتقي – إلى طوائف وشيع متنافرة كل منها يعمل في اتجاه ، ولا إلى فرد متخاصم مع المجموع . ولا تتحول كما يحدث في الجاهليتين المعاصرتين في الغرب والشرق إلى فرد طاغ ومجموع مفكك ، أو مجموع طاغ وفرد مسحوق !
وكذلك تلتقي الأمة والدولة على أمر واحد ، هو عبادة الله والحكم بما أنزل الله ، وهو أمر من صلب الاعتقاد ، لقوله تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ) [ المائدة : 44 ] .
وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهو مقتضى الإيمان بالله لقوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) [ آل عمران : 110 ] .فيحدث الترابط بينهما والاتفاق .
5- وفي مجال العلاقات :
قلنا : إنها تشمل علاقة الإنسان بربه وعلاقته بنفسه وعلاقته بالآخرين . وهنا نقول : إن هذه كلها تترابط وتلتقي عن طريق المحور المشترك فيها جميعاً وهو الإيمان بالله وعبادته . فعلاقة الإنسان بربه هي الإيمان والعبادة ، وعلاقته بنفسه هي تزكيتها ، والتزكية تتم عن طريق الإيمان والعبادة ، وعن طريق الالتزام بأوامر الله وهو مقتضى الإيمان والعبادة . وعلاقته ( أو علاقاته ) بغيره تتم كلها عن طريق تنفيذ أوامر الله والتحاكم إلى ما أنزل الله .
وبذلك تنتظم العلاقات كلها في سلك واحد قوامه الإيمان بالله ..
وهكذا يبدو الترابط والتكامل بين أركان هذه العقيدة على جميع المحاور وفي جميع المجالات .
ثالثاً : التوازن :
مع شمول هذه العقيدة وترابطها فهي تتسم أيضاً بالتوازن .
ويبدو هذا التوازن كذلك على مجموعة من المحاور المختلفة ومجموعة من المجالات :
1- توازن بين الروح والجسد أو عالم المعنويات وعالم الحس .
2- توازن بين عالم الغيب وعالم الشهادة .
3- توازن بين الإيمان بالقدر والأخذ بالأسباب .
4- توازن بين جوانب الحياة المختلفة : السياسية والاقتصادية والاجتماعية .. إلخ .
ولنقل كلمة سريعة عن كل مجال من هذه المجالات :
1- الإنسان قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله . وهناك توازن دقيق بين عنصريه المكونين له ، يختل إذا أعطينا أحدهما من العناية والالتفاف أكثر من حقه . والجاهليات دائماً تختل في هذا الأمر فتؤكد على جانب الروح وحدها كالهندوكية والبوذية أو جانب الجسد وحده كالجاهلية المعاصرة في شرق أوربا وغربها سواء .
ومن خصائص العقيدة الإسلامية أنها توازن بينهما التوازن الصحيح . فمن ناحية هي تمزج بين عالم الجسد وعالم الروح وتشركهما معاً في مجال العمل ومجال التعبد سواء ، ومن ناحية أخرى تعطي كلاً منهما حقه ،فلا تشغل الإنسان بعالم الحس وتكبت روحه كالمادية المعاصرة ، ولا تشغله بأمور روحه على حساب كيانه المادي ومطالب جسده كالديانة الهندوكية والبوذية : " ألا إني لأخشاكُمْ لله ولكنِّي أصُوْمُ وأفْطر ، وأقومُ وأنام وأتزوَّج النساء ، فمن رَغِبَ عن سُنَتي فليسَ مِنِّي ". وتقوم الحضارة الإسلامية المنبثقة من العقيدة على أساس الجانب المادي والروحي سواء .
2- يتطلب الإسلام الإيمان الغيب ، لأنه عن طريقه يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولكنه لا يطلب منه أن يهمل عالم الشهود ، بل إنه في عرضه لحقائق العقيدة يُكثر من الإشارة إلى آيات الله في الكون لكي يتدبرها الإنسان ويصل عن طريق تدبرها إلى الإيمان بالله ، ومن هنا لا يلجأ الإسلام إلى الغيبوبة الروحية التي يقع فيها بعض المتطرفين في العبادة زعماً منهم أنهم يستغنون بشهود الذات الإلهية عن شهود الكون الذي خلقه الله ، وكذلك لا يقبل أن ينشغل الإنسان بالكون المشهود عن عالم الغيب فيقطع صلته بالله واليوم الآخر كما تصنع حضارة اليوم المادية.
3- قلنا من قبل إن الإسلام لا يفصل بين الدنيا والآخرة ، ونقول هنا : إن هذا الربط ذاته هو الذي يوازن بين الدنيا والآخرة في هذه العقيدة ، إذ يحدث عدم التوازن حين تنفصل الدنيا عن الآخرة في حس الإنسان ، فيقوم بأعمال على أنها للدنيا وحدها منفصلة عن الآخرة ، وأعمال أخرى على أنها للآخرة وحدها منفصلة عن الدنيا ، عندئذ لا بد أن يحدث الاختلال في حسه فتغلب مجموعة من الأعمال على الأخرى . فإما أن تجذبه الدنيا رويداً رويداً حتى ينسى الآخرة ، وإما أن تجذبه الآخرة رويداً رويداً حتى ينسى الدنيا . وكلاهما في نظر الإسلام اختلال . فالأول ينشغل بالسعي وراء الرزق والحصول على أكبر قدر من متاع الدنيا ، والآخر يزهد في متاع الدنيا وينشغل عن طلب الرزق وتعمير الأرض . ويصبح كل منهما مقصراً وآثماً في حق الله .
إنما يحدث التوازن الذي تشير إليه الآية : ( وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ) [ القصص : 77 ] .
حين ترتبط الدنيا والآخرة في حس الإنسان فيعمل للآخرة وهو يعمل للدنيا في ذات الوقت . فلا يهمل العبادة ولا يهمل عمارة الأرض .
4- إن التوازن في حس المسلم بين الإيمان بالقدر وبين الأخذ بالأسباب ، هو من أجمل خصائص العقيدة الإسلامية ، إن المتواكلين يزعمون أنهم يتوكلون على الله ثم يهملون الأخذ بالأسباب جملة فيصيبهم ما يصيبهم من فقر ومرض وجهل وعجز وهوان في الأرض ، وإن المادية الأوربية من جانب آخر تأخذ بالأسباب منقطعة عن الله وقدره ، فتنتج إنتاجاً مادياً ضخماً وتكفر في ذات الوقت وتنحط أخلاقها وتهبط إنسانيتها إلى الحضيض ، ثم يصيبها ما يصيبها من قلق واضطراب وأمراض عصبية ونفسية وجنون وانتحار وضياع لأنها تفقد الطمأنينة التي يجدها المؤمن لذكر الله ولقدر الله .
والإسلام يوازن موازنة جميلة بين هذين الحدين المتطرفين ، فهو يعلم الناس أن هناك سننا ربانية يدير الله بها الكون المادي والحياة البشرية . وأنه لا بد من اتباع هذه السنن ومجاراتها إذا رغبنا في الوصول إلى نتائج معينة ، ومقتضى ذلك هو الأخذ بالأسباب . ولكنه في الوقت ذاته يربي المؤمن على ألا يتكل على الأسباب الظاهرة فيحبط عمله ، إنما يظل قلبه موصولا بالله ، متطلعا إليه أن ينجح مسعاه ويوصله إلى النتائج المرغوبة . وبذلك يتوازن الإنسان في سعيه في الأرض لا يهمل الأسباب ويتواكل ، ولا يكف عن التطلع إلى قدر الله .
5- أخيراً نقول : إن هذه العقيدة توازن بين جوانب الحياة الإنسانية المختلفة فلا يطغى منها جانب على جانب . فكما أن الجانب الروحي لا يطغى على الجانب المادي ، فكذلك لا يطغى الجانب السياسي على الاقتصادي ، ولا الاقتصادي على الخلقي وهكذا . بل تتوازن جوانب الحياة كلها على محور العقيدة الرئيس الذي مقتضاه الإيمان بالله والالتزام بما أنزل الله ، فتسير كلها متوازية متوازنة في آنٍ واحد.
.................................................. .......